القصة الرابعة والعشرون
نسألك اللهمّ العافية
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا
قصّها على أصحابه رضوان الله تعالى عليهم ،
فقال : أتاه الليلة آتيان فقالا له :
انطلق . فانطلق معهما ، فأتَوا على :
1) رجل مضّجع وآخر بيده صخرة ، وإذا به
يهوي بالصخرة على رأسه ، فيشدخ له رأسه ويشقّه ، ويتدحرج الحجر مبتعداً ، فيلحق به
الرجل ، فيأخذه ويعود إلى الرجل الأول ، فيجد رأسه عاد صحيحاً كما كان ، فيفعل به
مثلما فعل المرّة الأولى .
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للرجلين : سبحان الله
، ماهذانِ؟! ولِمَ يفعل الرجل الثاني بالأول ما فعل؟ فلا يُجيبانه ، بل يقولان له :
انطلق معنا . فينطلقُ .
2) فإذا بهم يقفون على رجل مستلق لقفاه ، وإذا آخر قائم
عليه ، وبيد كَـَلـّوبٌ من حديد يضعه على أحد شِقـّي وجهه ، فيشدّه ، فيقطع شدقه
إلى قفاه ، ويُقَطـّع سَحَره ( حلـْقَه ) إلى قفاه ، ويمزّق عينه ، فتنفر إلى قفاه
كذلك ، ثم يتحوّل إلى الجانب الآخر ، فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول . فما يَفرغ
من ذلك الجانب حتى يَصحّ ذلك الجانبُ الأوّل كما كان ، ثم يعود عليه ، فيفعل فيه
مثلما فعل في المرة الأولى ... فيقول الرسول صلى اللله عليه وسلم : سبحان الله ؛
ماهذان؟! ولِمَ يُفعل به ما يُفعل ؟ ، فلا يجيبانه بل يقولان له : انطلق ، انطلقْ .
فينطلقُ معهما .
3) فيأتون على حفرة كفـُوَّهة التنّور ، قال : فسمعنا في
لَغـَطاً وأصواتاً تعلو وتنخفض ، فنظرنا فيها ، فإذا رجال ونساء عُراة ، وإذا أعلى
التنور ضيق ، وأسفلُه واسع يتوقـّد ناراً ، فإذا ارتفعت النار ارتفعوا حتى كادوا
يخرجون ، وعلا صياحُهم ألماً ومرارة ، وإذا خمدت النارُ رجعوا فيها ... فقلت : ما
هؤلاء ؟! فلم أسمعْ منهما سوى انطلق انطلق، ولم يجيباني .
4) فتبعتـُهما ،
فأتينا على نهر أحمر مثلِ الدم ، وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر
رجل قد جمع عنده حجارةً كثيرةً ، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ، ثم يأتي نحو الرجل
الآخر يريد الخروج ، فإذا أراد أن يخرج ، وفتح فاه ألقمه هذا حجراً ، فردّه حيث كان
، فينطلق فيسبح ، فإذا عاد يريد الخروجَ فعل به مثل ما فعل سابقاً ، فيرجع كما كان
. فقلت لصاحبيّ : ماهذان؟! وما الذي أراه ؟، فلم يردّا عليّ سوى انطلق انطلق .
فأنطلق معهما .
5) حتى وصلنا إلى رجل كريه المنظر ، لم أرَ مثله هكذا إنساناً
كريها ، وإذا هو عنده نارٌ يوقدُها ، ويسعى حولها مهتمّاً بحسن إيقادها . فقلت لهما
: مَن هذا ؟ ولِمَ يوقد النار؟ فلم يجيبا كعادتهما ، بل أمراني أن أجدّ السيرَ ،
فانطلقَ وراءهما ، فالتزمت أمرهما مسرعاً .
6) فأتينا على روضة ممتلئة زهوراً
ووروداً ، جميلةٍ نضرةٍ وافيةِ النبات ، طويلـِهِ ، ورأيت في وسطها رجلاً طويلاً لا
أكاد أرى رأسه طولاً في السماء ، وإذ حول الرجل أولاد كثيرون جداً ، لم أرَ مثلَهم
قطّ . فسألتهما عنه وعمّنْ حوله ، فلم يصغيا لي ، وأمراني أن أتبعهما مسرعاً ففعلتُ
.
7) فوصلنا إلى شجرة ضخمة جداً ، آخذةٍ في العرض والارتفاع ، لم أرَ مثلها
اتـّساعاً وعلُوّا ، فقالا لي : ارْقَ فيها . فارتقينا فيها إلى مدينة مبنيّة من
لـَبـِن ذهبيّة وأخرى فضّية . وارتقينا الباب ، فاستفتحاه ، ففُتح لنا ، فدخلنا
المدينة ، فرأينا أوّل ما رأينا عجباً . تلـَقـّانا رجال نصفـُهم جميل كأحسن ما ترى
من الجمال ، وشطرُهم الآخر قبيح كأقبح ما ترى من القبح . قالا لهم : اذهبوا فـَقعوا
في النهر ، فذهبوا إلى نهر يجري ، كأن ماءه بياض خالص ، لا تشوبه شائبة ، فسبحوا
فيه هنيهة ، ثم عادوا إلينا قد ذهب ذلك السوءُ عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ....
ثم التفتا إليّ وقالا: هذه جنة عدن التي وعد الله المؤمنين .
وقال أحدهما :
أمّا أنا فجبريل ، وهذا ميكائيل . فارتاحت نفسي إذ عرفتـُهما ، فقلت :
قد رأيتُ
منذ الليلةِ عجباً ! ، فوضّحا لي ما رأيتُ .
قالا: أمَا إنا سنخبرك بعدما
رأيتَ ما رأيتَ :
1- أما الرجل الأول الذي أتيتَ عليه يشق صاحبُه رأسَه بحجر
ثقيل فإنه الرجل الذي يتهاون في قراءة القرآن ومُدارسَتِه ، الذي ينام عن الصلاة
المكتوبة ، فلا يصليها لوقتها .
2- وأمّا الذي يقطع صاحبُه شِدقَه إلى قفاه ،
ومَنخره إلى قفاه فهو الذي يخرج من بيته قد أكرمه الله وستره ، فلا يرى لشكر الله
سوى الكذب ونشره والاجتهادِ في إذاعته على الناس جميعاً ، لا يرى في ذلك حرجاً
.
3- وأما الرجال والنساءُ العُراةُ الذين هم في مثل بناء التنّور فإنهم الزناةُ
والزواني الذين أشاعوا الفاحشة ، وانغمسوا فيها دون أن يحسُبوا للشرف والطهارة
حساباً .
4- وأما الرجل الذي أتيتَ عليه يسبح في النهر الأحمر ، فيُلقِمُه
صاحبُه الحجارةَ فإنه آكل الربا الذي يغصُب الناس أموالَهم وأقواتَهم التي بذلوا في
سبيلها دماءهم وعرقهم .
5- وأما ارجل الكريه المنظر الذي عند النار يوقدها ،
ويسعى حولها فإنه مالِكٌ خازن جهنّم ، يجهّزها للعُصاة المارقين .
6- وأما الرجل
الطويلُ الذي في الروضة فإنه أبوك إبراهيم عليه السلام ، وأمّا الوِلْدانُ حوله فكل
مولود مات على الفطرة ....
فقال بعض المسلمين الحاضرين : وأولادُ المشركين يا
رسول الله ؟
قال صلى الله عليه وسلم : وأولاد المشركين .
7- وأما القوم
الذين كانوا شطرٌ منهم حسنٌ ، وشطرٌ منهم قبيحٌ فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر
سيّئاً ، تجاوز الله عنهم .
وقال الملَكان مشيرين إلى مكان عالٍ : وهذا منزلك
.
فرفعت رأسي فإذا فوقي مثلُ السحاب الأبيض ....
قلت لهما : بارك الله فيكما
، دعاني أدخل منزلي .
قالا: أمّا الآن فلا ، إنه بقي لك عُمُرٌ لم تستكملْه ،
فلو استكملتَه أتيتَ منزلك .
رواه البخاري
رياض الصالحين / باب تحريم
الكذب