القصة الثالثة والثلاثون
موسى والرجل الصالح
حدّث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
قام موسى النبي صلى الله
عليه وسلم في بني إسرائيل يعلمهم ويرشدهم – وهذا دأب الدعاة في كل زمان ومكان ،
فمهمتهم الأخذ بيد الناس إلى طريق الهدى ومنهج النور –
فسُئل : أيّ الناس أعلم
يا نبي الله ؟.
وكان عليه السلام يظن أنه أعلم الناس في عصره لأنه كليم الله
ورسوله إلى بني إسرائيل
فقال : أنا أعلم الناس .
فعتب الله تعالى عليه إذ لم
يردّ العلم إليه سبحانه وكان عليه أن يقول : الله أعلم ، فيكل العلم والمعرفة إلى
الله عزّ وجلّ .
فأوحى إليه سبحانه : أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم
منك ....
قال موسى : ربّ ؛ وكيف لي به ؟ وما السبيل إلى لقائه ؟ فقد أحب أن
يلتقيه ويتعلم منه .
قيل له : احمل سمكة في سلة ، ثم انطلق بحثاً عن هذا الرجل ،
واتجهْ إلى المكان المحدد – بين البحرين – ( عند مصب النهر في البحر ) هناك ستقابله
.
فانطلق موسى عليه السلام ومعه فتاه يوشع بن نون – الذي ورثه في النبوّة
والدعوة في بني إسرائيل – ويوشع الذي فتح القدس – حتى إذا وصلا المكان وفيه صخرة
كبيرة مستوية أحسّا بالتعب ، فوضعا رأسيهما ، وغرقا في نوم عميق . وانسلّ الحوت من
المكتل( السلة ) ، واتخذ سبيله في البحر سرباً ( مسلكاً ومنفذاً ) .. حدث هذا الأمر
المعجزة وهما نائمان ، فكان أمراً عجباً إذ كانت السمكة مشوية .
انطلقا بعد ذلك
سائريْن بقية ليلتهما ويومهما .
فلما أصبح الصباح ، وأسفر وجه النهار قال موسى
عليه السلام لفتاه : " آتنا غداءَنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصَباً " ( تعباً ) .
ولم يجد موسى عليه السلام مسّاً من النّصَب حتى جاوزا المكان الذي أمر به وأراد
الله تعالى أن يلتقي فيه موسى بالرجل الصالح العالم .
لما طلب موسى عليه السلام
الغداء من فتاه – وكان فتاه قد نظر في السلة فلم يجد الحوت – فقال له : " أرأيت إذ
أوينا إلى الصخرة ! فإني نسيتُ الحوت " .
قال له موسى عليه السلام : فذلك ما كنا
نبغيه إذ إننا سنلتقي الرجل الذي وُعدنا به في المكان الذي نفقد فيه الحوت . هذا
الرجل أعلم مني ، وكنت أود أن أتعلم منه ما يفيدني في الدعوة إلى الله تعالى . هلمّ
- يا ولدي - إلى الصخرة فثمّ نراه ....
" فارتدّا على آثارهما قصصاً " وعادا
أدراجهما إلى ذلك المكان . فلما وصلا إليها رأيا رجلاً مسجّى ( مغطّى ) بثوبه ،
فسلم موسى عليه ، فقال الرجل – واسمه الخَضِرُ - : وأنّى بأرضك السلام؟!
قال له
: أنا موسى بن عمران .
قال الخضر : موسى بني إسرائيل؟
قال موسى : نعم . وقص
عليه سبب شد الرحال إليه ، وطلب إليه أن يسمح له أن يكون تلميذاً يتعلم منه مما
علمه الله تعالى . " هل أتبعك على أن تعلمَن ِ مما عُلـّمْتَ رُشدا ؟ " .
قال
الخَضِر : إنك لن تستطيع معي صبراً – يا موسى – إني على علم من علم الله علـّمنيه
لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علـّمك الله إياه لا أعلمه ، فكل منا على علم اختصه
الله به ، لا يعلمه الثاني .إن عِلْمَ الخضر ( لدنّيّ ) وعلم موسى ( شرعي ) .
والفرق بينهما بيّن .
قال موسى : " ستجدني إن شاء الله صابراً ، ولا أعصي لك
أمراً " وصبْر التلميذ على معلمه مطلب مهم ، ينبغي أن يتحلّى به المريد كي يستفيد
من علم معلمه .
عاد يوشع الفتى إلى قومه ، وانطلق النبيان يمشيان على سـِيف
البحر ، ليس لهما سفينة ... فمرّت بهما سفينة ، فكلّماهم أن يحملوهما ، فعرف أهل
السفينة الخضر ، فحملوهما بغير نَوْلٍ ( أجرة ) ، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة
، فنقر من الماء نقرة أو نقرتين وهكذا يشرب العصفور في البحر – ولعل السفينة كانت
في بحيرة طبريا يصب فيها نهر الأردن – وقد تكون بحيرة حلوة غيرها جفـّت على مرّ
الأيام ، والله أعلم . ولا ننسَ أن البحر يطلق على النهر والبحيرة كذلك ، دليله
قوله تعالى في سورة الفرقان الآية الثالثة والخمسين :" وهو الذي مرج البحرين ، هذا
عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ..." . فقال الخضر منبهاً موسى عليهما السلام إلى سعة علم
الله تعالى : يا موسى ؛ ما علمي وعلمك وعلم المخلوقات إلى علم الله إلا كما شربه
العصفور من ماء البحر !!
ثم عمد الخضر في غفلة من أصحاب السفينة إلى لوح من
ألواحها ، فنزعه ، ثم نزلا من السفينة قبل أن يشعر أصحابها بما فعل الخضر بها .
قال موسى عليه السلام مستنكراً فعلته : قومٌ حملونا بغير نَول عمدتَ إلى
سفينتهم ، فخرقتها لتغرق أهلها ؟! لقد فعلت مفسدة عجيبة لا يستحقونها منك !
قال
الخضر عليه السلام : " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ! " فأنا أقوم بأعمال
ظاهرها مفسدة وحقيقتها عونٌ ، وأنت على جهل بها ، لا تعرف حقيقتها .
قال موسى
عليه السلام : قد نسيت فلا تؤاخذني يا أخي الحبيب ،
فقبل الخضر عليه السلام عذره
، وانطلقا في طريقهما ، فإذا غلام يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه ،
فاقتلع رأسه بيده .
قال موسى عليه السلام محتجاً مرة ثانية : أتقتل الفتى دون
جريرة ارتكبها؟! وتزهق نفساً زكية دون سبب ؟ ما هذا المنكر الغريب الذي أتيتَه ؟!
قال الخضر عليه السلام مرة ثانية بأسلوب أشد عتباً من الأولى إذ زاد في قوله (
لك ) " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟! "
فشعر موسى عليه السلام أنه –
للمرة الثانية – لم يلتزم بوعد قطعه على نفسه أن يسكت – فقال معتذراً " إن سألتك عن
شيء بعدها فلا تصاحبني ، قد بلغتَ من لدنّي عذراً " .
قبل الخضر عليه السلام
عذره كرة أخرى، فانطلقا حتى وصلا قرية كبيرة ، سألا أهلها طعاماً ، فكانوا بخلاء ،
لم يستجيبوا لهما ، ولم يستضيفوهما . فوجدا جدارً مائلاً يكاد أن ينهدم ، فأومأ
الخضر عليه السلام بيده إليه ، فعاد بإذن الله معتدلاً مستوياً !
قال موسى
بعدما رأى بخل أهل القرية وإقامة الجدار وأنهما يستحقان أجرة لذلك العمل الإيجابي :
" لو شئتَ لاتخذْتَ عليه أجراً " .وكانت هذه هي المرة الثالثة التي يتدخّل فيها
موسى عليه السلام بما لا يَعنيه ، وقد كان وعد أن يسكت منتظراً الخضر عليه السلام
أن يشرح له ، ويوضح ما التبس على موسى مما يرى حين يجد الوقت ملائماً .
هنا
آن للخضر أن يفارقه ، فقد صبر عليه ثلاث مرات ، ولا حرج أن يعتذر إليه وينصرف عنه ،
فصرّح له قائلاً " هذا فراق بيني وبينك " ولكنه قبل أن يفارق موسى قص عليه ما
استغلق عن الفهم . وهذا ما نجده في سورة الكهف :
أما السفينة فقد خرقها الخضر
لأن ملكاً ظالماًً على الطرف الآخر من البحر كان يغتصب السفن الصالحة ، فيضمها إليه
، وكان أصحاب السفينة فقراء ليس لهم عمل سوى هذه السفينة ، يصطادون بها ، وينقلون
بها البضائع والركاب ، فلما رأى الملك العيب الذي أحدثه الخضر في السفينة زهد فيها
، وتركها لأصحابها .
وأما الفتى فسوف يكون – في علم الله حين يصير شابّاً –
فاسقاً يُتعب والديه المؤمنَين ويرهقهما ، فأراد الله سبحانه أن يعوّضهما خيراً منه
زكاة ، وأقرب رحماً ، فرزقهما فتاة صالحة كانت بعدُ زوجة لنبي من أنبياء الله
سبحانه .
وأما الجدار الذي أقامه الخضر فقد كان لغلامين يتيمين في المدينة ،
وكان تحته كنز لهما خبّأه والدهما الصالح لهما حتى يكبرا ، فأراد سبحانه الرؤوف
بعباده أن يبلغا أشدّهما فيستخرجا هذا الكنز – لا يستولي عليه غاصب وهما صغيران –
وهذا من فضل الله تعالى ورحمته بهما إكراماً لوالدهما ، فالله يحفظ الأبناء بصلاح
الآباء .
وقد أخبرنا الخضر عليه السلام أنه إنما عمل ما عمل بإذن الله ، فهو
مأمور .
قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين المتحلقين حوله يستمعون القصة
معتبرين بمواعظها الجليلة : " يرحم الله موسى ؛ لَودِدْنا لو صبر حتى يقص علينا من
أمرهما ما استغلق " .
ملاحظة : في موقع" أدباء
الشام ، قسم حديث الروح" تأملات تربوية في " قصة موسى والخضر عليهما السلام " تحمل
معاني تربوية مفيدة ، يمكن الرجوع إليها .
صحيح البخاري ج1 كتاب
العلم
باب/ ما يُستحب للعالم إذا سُئل أي الناس أعلم؟ فيَكـِل العلم إلى
خالقه